لتعزيز كفاءة الطاقة في الصناعات الدوائية.. تقنية أردنية بريطانية جديدة
بات تعزيز كفاءة الطاقة أحد معايير التفوق الصناعي في ظلّ تسارع التحوّل الرقمي وتشديد الاشتراطات البيئية عالميًا.
وتزداد أهمية هذا الملف في الصناعة الدوائية تحديدًا؛ نظرًا إلى اعتماد خطوط الإنتاج على بيئة مُحكمة الضبط من حيث الحرارة والرطوبة ونقاء الهواء؛ وهو ما يترجم إلى استهلاك مرتفع للكهرباء.
وللتصدّي لهذا التحدي، يعمل فريق بحثي أردني بريطاني على مشروع يحمل اسم “سمارتي” Sustainable Monitoring & Advanced Real‑Time Energy Efficiency)، اطلعت عليه منصة الطاقة المتخصصة (مقرها واشنطن).
ويضمّ التحالف البحثي من الأردن كلًا من: جامعة الحسين التقنية (HTU)، وشركة رام للأدوية، وشركة سام للهندسة والابتكار الصناعي، ومن بريطانيا: جامعة كوفنتري.
مشروع سمارتي
أوضح الأستاذ المشارك في كلية الهندسة بالجامعة الأردنية وجامعة الحسين التقنيّة الدكتور حسام جهاد خصاونة، أن المشروع يسعى إلى نشر منظومة مراقبة لحظية لاستهلاك الطاقة بالاعتماد على تقنيات إنترنت الأشياء في الصناعة.
وحظي المشروع بتمويل تنافسي من برنامج (Transforming Systems through Partnership (TSP التابع للأكاديمية الملكية للهندسة في المملكة المتحدة؛ ما مكّنه من تطوير حل رقمي متكامل يهدف إلى تقليل الهدر وتعزيز كفاءة الطاقة مع الحفاظ على صرامة معايير التصنيع الدوائي.
ويعتمد “سمارتي” على نشر عدادات فرعية ذكية لقياس الطاقة الموزَّعة داخل شبكة المصنع الكهربائية، بحيث تلتقط البيانات الكهربائية وتبثها لحظيًا إلى منصة سحابية.
وتكمن ميزة المشروع في قدرته على التغلغل ببيئة تشغيل قائمة من دون الحاجة لإيقاف خطوط الإنتاج أو إعادة هيكلة البنية التحتية.
وحدد الفريق البحثي 4 لوحات توزيع رئيسة تغذّي معظم الأحمال: لوحة مباني تصنيع الأدوية، لوحة المبرّدات، لوحة الخدمات الصناعية والضواغط، لوحة الفلاتر ومجمّعات الغبار.
وأشار خصاونة -في تصريحات خاصة إلى منصة الطاقة المتخصصة- إلى أن هذه النقاط توفر تغطية رؤية لحظية لأكثر من 80% من الاستهلاك الإجمالي للمصنع.
وجرى اختيار عدادات رقمية من طراز Schneider PM1000؛ لما تتميز به من دقة عالية وقدرة على قياس فرق الجهد والتيار والتردد والقدرة الفاعلة وغير الفاعلة والطاقة التراكمية.
ورُبطت العدادات بمحولات تيار مغلَقة لتسجيل قيم المراحل الـ3 من دون قص الكوابل، ثم جرى توصيلها بمجسات جهد بينية تُثبَّت على أطراف القواطع.
ومن خلال هذه البنية، تتحول كل لوحة توزيع إلى “نقطة بيانات” تبث قراءاتها باستمرار إلى النظام المركزي.
البنية التقنية
تمتدّ منظومة المشروع على محور واحد متكامل يبدأ من أجهزة القياس داخل المصنع وينتهي بلوحة التحكّم السحابية؛ إذ تُجمَع البيانات كهربائيًا عند المصدر، وتُجرى لها معالجة أولية في بوابة ميدانية، ثم تُنقَل بشكل آمن في الزمن الحقيقي إلى السحابة لتحليلها وعرضها.
ويوضّح التسلسل الآتي الطبقات التقنية الرئيسة لهذا المسار:
-
جمع البيانات عبر Modbus RS 485
تنقل العدادات بياناتها إلى حاسوب مصغّر (Blackview MP60) يَعمل عمل بوابةً محلية.
واختير بروتوكول Modbus الصناعي عبر منفذ RS 485؛ لقدرته على مقاومة التشويش في البيئات الصناعية ودعمه لطول المسافات.
وتتيح واجهة الـUSB to RS 485 تحويل الإشارة لتتناسب مع الحاسوب وتضمن معدلات نقل مستقرّة.
-
معالجة تدفقات القياس بـNode RED
استُعمل Node RED لتصميم مسارات معالجة مرنة على البوابة وهي: عقدة لاستقراء السجلات كل 5 ثوانٍ، وعقدة لتحويل القيم الخام إلى وحدات مقروءة، وأخرى لحساب المؤشرات اللحظية مثل معامل القدرة ونسبة التحميل.
وتساعد هذه الحسابات المبدئية في كشف الاختلالات مبكرًا قبل وصول البيانات إلى السحابة.
-
نشر البيانات بواسطة MQTT (Message Queuing Telemetry Transport)
بعد المعالجة الفورية، تُرسَل القياسات إلى خادم MQTT مركزي تحت مسارات مرتَّبة، حيث تم تفعيل بروتوكول TLS لتأمين القناة ومنع أي اعتراض للبيانات الحساسة.
-
منصة ThingsBoard ولوحات القياس
يعرض النظام لوحة تحكم ثلاثية الأبعاد بُنيت في ThingsBoard؛ حيث أُدمج نموذج للمصنع يُظهر كل لوحة توزيع بمثابة كائن تفاعلي يتبدل لونه استنادًا إلى مستوى استهلاكها.
كما تظهر مؤشرات رقمية ورسوم بيانية تاريخية -بجوار النظام- تستطيع تغطية أي مدى زمني، من دقائق إلى شهور؛ ما يُسهل تحليل الأنماط الموسمية وتخطيط الصيانة الوقائية.
-
التكامل مع فرق التشغيل
وُضعت واجهة الويب خلف جدار ناري Firewall داخلي، مع صلاحيات دخول تعتمد على أدوار المستخدمين.
ويُسمح لمهندسي الطاقة بتعديل حدود التنبيه، في حين يمكن للفنيين تلقي إشعارات فقط، ويعمل هذا الفصل على تقليل مخاطر الخطأ البشري وضمان استمرارية المراقبة اللحظية دون انقطاع.
مراحل التنفيذ
لفت الأستاذ المشارك في كلية الهندسة بالجامعة الأردنية وجامعة الحسين التقنية الدكتور حسام جهاد خصاونة، إلى إتمام تنفيذ المشروع عبر عدة مراحل؛ هي:
التدقيق الأولي وتحديد الأولويات:
بدأ العمل بتدقيق طاقي شمل مراجعة فواتير الكهرباء، والاطلاع على مخططات غير محدثة ثم استكمالها بمسح ميداني لتتبع الكوابل ومساراتها.
وأسفر ذلك عن قائمة بالأحمال الكبرى التي تستحوذ على القسم الأكبر من الطلب الكهربائي، وجرت مطابقة هذه الحمولة مع لوحات التوزيع ذات القواطع من 150 إلى 400 أمبير.
وخلص الفريق البحثي إلى أن مراقبة 4 لوحات فقط كفيلة بإعطاء صورة شاملة عن أداء المنشأة؛ ما يقلل التكلفة ويبسّط الصيانة.
التثبيت التجريبي في المختبر:
قبل التثبيت داخل المصنع، رُكّبت العدادات والبوابة في مختبر تابع للشريك الصناعي؛ ما سمح باختبار مدى الدقة والتحقق من أن القيم المُستخلَصة تتوافق مع جهاز معايرة معتمد.
كما أُجري اختبار إجهاد لمحاكاة أسوأ السيناريوهات: انقطاع الاتصال، ارتفاع درجة حرارة الغرفة، تذبذب جهد التغذية.
وأظهرت العدادات انحرافًا لا يتجاوز ±0.5%، وهي نسبة مقبولة في المعايير الصناعية.
النشر المرحلي خلال عطلات نهاية الأسبوع:
اختيرت عطلات نهاية الأسبوع لتركيب العدادات في اللوحات لمنع توقف الإنتاج، إذ تطلّبت العملية تنسيقًا محكمًا مع إدارة الصيانة؛ إذ عُزلت القواطع الرئيسة مؤقتًا واستُبدِلت أغطية اللوحات لتستوعب محولات التيار ومواصلات الجهد.
وبفضل التخطيط المسبق، لم تتجاوز مدة العزل 40 دقيقة لكل لوحة؛ ما أبقى تأثيرًا طفيفًا في جدول الإنتاج.
تحسين الاتصال:
كشفت الأيام الأولى عن انقطاعات متكررة في الربط اللاسلكي على السطح حيث توجد لوحات المبرّدات.
وحُلَّت المشكلة بتمديد كابل إنترنت محمي عبر مجرى الكابلات القائم، ثم توصيل بوابة شبكة صغيرة (Switch) توزع الاتصال سلكيًا إلى البوابة المصغّرة.
واقترح الفريق البحثي لاحقًا إنشاء مسار احتياطي بتقنية LoRaWAN منخفضة الاستهلاك كقناة طوارئ لبيانات القدرة وحدها.
القيمة المضافة والأرقام الأولية
أشار الدكتور حسام خصاونة إلى أن النظام قد تمخضت عنه المزايا الآتية:
- خفض وقت الاستجابة الفني: أصبح الفنيون يتلقون تنبيهًا فور تجاوز حمولة المبرّدات حدًا معينًا؛ ما أدى إلى تقليص زمن اكتشاف الأعطال من يوم كامل إلى أقل من 10 دقائق.
- تحسين معامل القدرة العام: أدى رصد القدرة غير الفعالة لحظيًا إلى تركيب مصحّحات موضعية رفعت معامل القدرة من 0.82 إلى 0.93، فترتب على ذلك تخفيض الرسم الإضافي على الفاتورة.
- تحديد فرص الجدولة الذكية: أظهرت البيانات أن تشغيل فلاتر الغبار خارج ساعات الإنتاج يهدر نحو 4% من استهلاك اللوحة المتعلقة به سنويًا.
وبعد إعادة البرمجة، قُدِّر التوفير السنوي بما يعادل استهلاك 20 منزلًا متوسطًا.
- قابلية التوسع: بنية MQTT ThingsBoard تسمح بإضافة عداد خامس في أقل من 20 دقيقة دون الحاجة لتعديل جوهري؛ ما يسهّل مستقبلًا مراقبة المختبرات أو المخازن المبردة.
التحديات والنتائج
أوضح خصاونة أن المشروع البحثي قد واجه بعد التحديات وتغلب عليها، مثل:
-
مواءمة البنية القديمة مع التقنية الحديثة
تبين أن بعض لوحات التوزيع تفتقر لحواجز عزل داخلية، ما تطلّب تركيب صناديق فرعية لحماية محولات التيار من اللمس المباشر، وعلّم ذلك الفريق أهمية التدقيق الميكانيكي للوحات قبل شراء أي عتاد.
-
ثقافة البيانات
في البداية، تعامل بعض المشغلين مع التنبيهات على أنها “إنذارات كاذبة”، وحُلّت المسألة بتدريب عملي، أوضح كيف يمكن للبيانات اللحظية أن تتنبأ بارتفاع حرارة أحد الضواغط قبل توقفه فعليًا، ما عكس فوائد الرصد اللحظي في تجنب الأعطال المكلفة.
-
الحاجة إلى تكامل أعمق
يخطط الفريق لربط منصة ThingsBoard بنظام إدارة الصيانة المحوسب (CMMS) بحيث يؤدي أي تنبيه إلى فتح طلب خدمة آليًا؛ الأمر الذي يزيد الاتساق ويقلل ساعات العمل الورقية.
قال الدكتور حسام خصاونة -خلال تصريحاته إلى منصة الطاقة المتخصصة- إن مشروع سمارتي أظهر أن إجراء مراقبة لحظية لاستهلاك الطاقة في بيئات صناعية حساسة مثل تصنيع الأدوية ليس حلمًا بعيد المنال، بل خيارًا واقعيًا ذا مردود سريع.
وأضاف أن تركيب عدادات فرعية ذكية، وبوابة معالجة خفيفة، ومنصة عرض سحابية، قد أعطى إدارة المصنع رؤية شاملة ودقيقة ثبُت تأثيرها المباشر في التكاليف والأعطال والانبعاثات الكربونية.
وتابع أن “سمارتي” يمثل نموذجًا عمليًا يمكن نسخه وتكييفه في المنشآت العربية الساعية إلى التحول الرقمي وتعزيز كفاءة الطاقة معًا، في ظل الخطط المستقبلية لدمج التحليلات التنبّؤية ومصادر الطاقة المتجددة.
واستطرد قائلًا: “إن المزج بين إنترنت الأشياء ومبادئ الإدارة الرشيقة يتيح للمصانع الانتقال من التفاعل بعد وقوع المشكلة إلى الوقاية الاستباقية، وهذا يمثل مفتاح التفوق الصناعي خلال العقد المقبل”.
موضوعات متعلقة..
- مؤشرات تحسن كفاءة الطاقة في عام 2024 لن تتجاوز 1% (تقرير)
- 5 إجراءات لمضاعفة تحسين كفاءة الطاقة وتحقيق الأهداف المناخية (تقرير)
- شبكة الكهرباء في الأردن تتلقى تمويلًا أوروبيًا
اقرأ أيضًا..
- مستجدات أسواق الغاز المسال العربية والعالمية في الربع الأول (ملف خاص)
- انخفاض صادرات الجزائر من النفط في 3 أشهر.. وفرنسا ضمن أكبر المستوردين
- تقنية توفر الكهرباء للمصريين ليلًا ونهارًا بأرخص سعر ممكن.. ما قصتها؟
- إنتاج حقل ظهر المصري في 2025 وحجم الاحتياطي المتبقي (خاص)
إقرأ: لتعزيز كفاءة الطاقة في الصناعات الدوائية.. تقنية أردنية بريطانية جديدة على منصة الطاقة