Categories
Uncategorized

المدن “الإسفنجية”: حيث تلتقي الهندسة مع الطبيعة

SPONGE CITIES COVER

في خضم عالمنا المتسارع، حيث تتشابك خيوط التحديات البيئية مع نسيج حياتنا اليومية، يبرز مفهوم “الحلول القائمة على الطبيعة” كطوق نجاة لمواجهة أزماتٍ وجوديةٍ باتت تهدد كوكبنا. تشكل هذه الحلول، التي تُعرف اختصارًا بـ (NBS)، فلسفة جديدة للتعامل مع الطبيعة، وتقوم على فكرة استلهام الحلول من صميمها، بدلًا من محاولة السيطرة عليها.

دعونا نغوص في أعماق هذا المفهوم المُبتكر، ونستكشف كيف يُمكننا استلهام الحلول من الطبيعة لمواجهة التحديات البيئية المُلحّة، من الفيضانات والجفاف إلى تغير المناخ. ونكتشف كيف يُمكن لـ “مدن الإسفنج” أن تُعيد تعريف علاقتنا مع المياه، وتُرسم لنا طريقًا نحو مستقبلٍ أكثر استدامةً وازدهارًا.

ما هي الحلول القائمة على الطبيعة؟

الحلول القائمة على الطبيعة هي إجراءاتٌ تهدف إلى حماية واستعادة النظم البيئية الطبيعية، وإدارتها بشكل مستدام بطريقة تعالج التحديات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية بشكلٍ فعالٍ مع الاستفادة من رفاهية الإنسان والتنوع البيولوجي. وبعبارة أخرى يمكننا تعريفها على أنها تدخلات تستخدم الطبيعة والوظائف الطبيعية للنظم البيئية الصحية لمعالجة بعض التحديات الأكثر إلحاحًا في عصرنا. وعلى النقيض من ذلك، فإن الإجراءات التي تقلل ببساطة من تأثير البشر على الطبيعة، مثل الحد من النفايات أو تقليل استخدام المياه، لا تعتبر حلولاً مستندة إلى الطبيعة.

تُعتبر الحلول القائمة على الطبيعة والتي تجمع بين العلوم والتقنيات والمعرفة التقليدية، وتسعى إلى تحقيق التوازن بين احتياجات الإنسان ومتطلبات البيئة بمثابة استثمارٍ في مستقبلٍ أكثر استدامة، حيث أنها لا تُحسن فقط صحة النظم البيئية، بل تُساهم أيضًا في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، مثل توفير المياه النظيفة، وتحسين الأمن الغذائي، وتعزيز القدرة على التكيف مع تغير المناخ.

تعرفنا في مقال سابق عن أمثلة عديدة عن هذه الحلول وكيف تساعد على مواجهة التغير المناخي يمكنكم الاطلاع عليها من هنا

ولكن سنتخيل اليوم مدينةً تتنفس مع هطول الأمطار، تمتصها كالإسفنجة، ثم تُعيد تدويرها لري حدائقها، وتُزهر بها شوارعها. تخيل مدينةً تُقاوم الفيضانات والجفاف، ليس بالخرسانة والسدود، وإنما بذكاء الطبيعة وتناغمها. هذه ليست مدينةً من قصص الخيال، بل هي مستقبلٌ يُمكننا بناؤه اليوم، مستقبلٌ تُشكّل فيه “الحلول القائمة على الطبيعة” حجر الأساس.

مدن الإسفنج “Sponge Cities”

تم اقتراح مفهوم المدن “الإسفنجية” لأول مرة في عام 2013، من قبل البروفيسور “كونغجيان يو” من جامعة بكين. وقد وصف هذا المفهوم كطريقة يمكن من خلالها للمساحات الحضرية أن تعمل جنبًا إلى جنب مع الطبيعة لامتصاص مياه الأمطار، بدلاً من توجيهها بعيدًا.

تمثل المدن “الإسفنجية” نموذجاً جديداً للتصميم الحضري ويستخدم مصطلح “المدن الإسفنجية” لوصف المناطق الحضرية حيث تتحول المساحات الخضراء، من أشجار وحدائق غناء وبحيرات، إلى خط الدفاع الأول ضد الأمطار والفيضانات. تجمع هذه المدن بين جمال التصميم وكفاءة الأداء حيث تمتص الطبيعة مياه الأمطار كإسفنجة وتحولها من تهديد إلى فرصة لتغذية الحدائق وريّ المزروعات. إنها ليست مجرد إضافة لمسة خضراء للمدن، وإنما هي إعادة تعريف لعلاقتنا مع الطبيعة، وأسلوب حياة جديد يزدهر بالتكامل معها.

صورة تخيلية لمدينة إسفنجية

مبادئ تصميم المدن “الإسفنجية”

يمكن لتصميم المدن “الإسفنجية” أن يمنع أو يخفف من الفيضانات الناجمة عن الأمطار الغزيرة أو المد العالي أو غيرها من خلال تزويد المنطقة بالقدرة على امتصاص المياه بشكل طبيعي.

وإن مجرد تقليص عدد الأسطح الصلبة وزيادة مساحة الأراضي الماصة للمياه وخاصة المساحات الخضراء من شأنه أن يحدث فرقاً كبيراً في الحد من شدة وتواتر الفيضانات.

ومن الممكن أن يساعد استكمال هذا النهج بأنظمة فعّالة للتوجيه والتخزين في مكافحة تكرار حالات نقص المياه، والتي قد تكون حادة بشكل خاص في المدن الكبرى.

ويمكن أن تشمل التدابير الأخرى ما يلي:

  • توفير المساحات الخضراء على أسطح المباني.
  • تخزين وتجميع مياه الأمطار.
  • بناء الطرق باستخدام مواد سطحية مسامية.
  • استخدام النباتات والأشجار التي تستهلك كميات كبيرة من المياه.
  • إنشاء أحواض أرضية لتخزين المياه الزائدة.
  • إدخال المزيد من البرك والبحيرات التي يمكن أن تستوعب بعض المياه الزائدة.

لماذا مدن الإسفنج مهمة؟

في ظل تصاعد حدة التغيرات المناخية، باتت الفيضانات شبحًا يهدد المدن حول العالم، مخلفًا خسائر بشرية ومادية فادحة.  ووفقًا لدراسة أجريت عام 2022، فإن 1.8 مليار شخص حول العالم معرضون لخطر الفيضانات، وهو رقم مرشح للارتفاع مع استمرار التوسع العمراني وتفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري. من ناحية أخرى، لا تقتصر آثار الفيضانات على الخسائر المادية، وإنما تمتد لتشمل تدمير البنية التحتية وتشريد السكان، كما حدث مؤخرًا في ليبيا، حيث أودت الفيضانات بحياة أكثر من 11 ألف شخص مع وجود آلاف آخرين في عداد المفقودين.

ولمواجهة هذه التحديات تبرز “المدن الإسفنجية” كحلٍ مبتكرٍ وفعال ودرع يقي المدن من غضب الطبيعة.  فهي تعتمد على توظيف الخصائص الطبيعية للمدن، كالمساحات الخضراء والحدائق والبحيرات، لامتصاص مياه الأمطار وتخزينها، مما يساهم في التخفيف من حدة الفيضانات وحماية المدن.

 ولا تقتصر أهمية المدن “الإسفنجية” على كونها مجرد حلول جمالية، فهي توفر مجموعة واسعة من الفوائد التي تعود بالنفع على البيئة وصحة الإنسان. فالمدن “الإسفنجية” تساهم في التخفيف من آثار التغيرات المناخية، كما أن تصميمها المبتكر يُسخر قوى الطبيعة لخدمة الإنسان.

بالإضافة إلى ذلك، تتميز المدن “الإسفنجية” بقدرتها الفائقة على تنقية المياه وتخزينها للاستفادة منها في أوقات الجفاف. ومن ناحية أخرى فإن المساحات الخضراء التي تُعد جزءًا أساسيًا من تصميم المدن “الإسفنجية”، تساهم في تعزيز الاستدامة البيئية وتحسين جودة الهواء وتلطيف درجات الحرارة، مما يخلق بيئة صحية ومريحة للسكان. وكذلك فإن التقارب مع الطبيعة في المدن “الإسفنجية” يعزز الصحة النفسية والبدنية للإنسان، ويخلق شعورًا بالسعادة والانتماء للمكان.

كيف يتم قياس “الإسفنجية”؟

وفقاً لباحثين في شركة أروب (Arup) استخدموا صور الأقمار الصناعية والذكاء الاصطناعي فقد تمكنوا من قياس “إسفنجية” مدينة ما من خلال قياس المساحة المغطاة بالبينة التحتية الخضراء والزرقاء بما في ذلك العشب والأشجار والبحيرات والبرك ومقدار البنية التحتية الرمادية كالخرسانة والأرصفة والمباني.

كما نظرت الشركة في نوع وملمس الرتبة الحضرية لتقييم مقدار المياه التي يمكن أن تحملها، بالإضافة إلى الغطاء النباتي، الذي يمكن أن يساعد في الاحتفاظ بالمياه ومنع الجريان السطحي.

مدن إسفنجية حول العالم

برلين، ألمانيا

تم تبني مبدأ “الإسفنجية” في برلين بعد أن شهدت فيضانات مفاجئة في عام 2017. ويذكر أن برلين تختلف عن العديد من المدن الأخرى في ألمانيا في أنها لا تستخدم الأنابيب لنقل المياه من الينابيع وتحصل بدلاً من ذلك على مياه الشرب من الأرض.

جاكرتا، إندونيسيا

تغرق جاكرتا بمعدل ينذر بالخطر لدرجة أنها تُهجر. ففي عام 2020، نزح 170 ألف شخص من جاكرتا بسبب هبوط الأرض. وقد اختارت إندونيسيا بناء عاصمة جديدة تمامًا بدلاً منها، على بعد 1000 كيلومتر. ويُقال أن العلماء والخبراء توقعوا أن تغمر المياه أجزاء كبيرة من المدينة بالكامل بحلول عام 2050 لذلك فكر الخبراء بطريقة لإنقاذها وارتأوا أن يجعلوا جاكرتا مدينة إسفنجية للحفاظ عليها. فمن خلال دمج التدفقات الطبيعية للأنهار، وتجنب الإفراط في استخدام الخرسانة.

الصين

تشهد الصين نقصاً حاداً في المياه كما أن منشآت المياه الخاصة بها موزعة بشكل سيئ في جميع أنحاء البلاد ويعزى ذلك إلى سرعة التوسع الحضري. كما تعتبر من الدول المعرضة بشكل كبير لخطر الفيضانات إذ تتأثر 641 مدينة من مدنها البالغ عددها 654 بالفيضانات المنتظمة. لذلك اكتسب مفهوم المدينة “الإسفنجية” زخمًا كبيرًا بين المخططين الحضريين في البلاد وهذا ما دفع الحكومة الصينية إلى تسمية 30 مدينة رائدة لبرنامج المدن “الإسفنجية” الخاص بها مثل شنغهاي التي تضم مشاريع مثل أسطح المباني الخضراء والأرصفة النفاذة، بالإضافة إلى نظام متطور لجمع مياه الأمطار. وكذلك ووهان والتي تم تنفيذ أكثر من 380 مشروعًا فيها لامتصاص مياه الأمطار وتحسين جودة الهواء والتنوع البيولوجي. ونذكر كذلك تشونغتشينغ حيث تم تحويل 24.2% من المنطقة الحضرية إلى مناطق إسفنجية بحلول عام 2020، مع خطط لزيادة هذه النسبة إلى 45% بحلول عام 2025.

كيف يمكن للمدن العربية الاستفادة من المدن “الإسفنجية”؟

تتمتع المدن العربية بإمكانيات كبيرة لتطبيق مفاهيم المدن “الإسفنجية” ويمكن تحقيق ذلك من خلال تصميم أنظمة حصاد مياه الأمطار على أسطح المباني والأرصفة النفاذة وتخزينها في خزانات جوفية أو بحيرات اصطناعية لاستخدامها في الري أو التنظيف، خاصة في المناطق الجافة مثل الخليج العربي وشمال أفريقيا. بالإضافة إلى استخدام تقنيات “الحدائق المطرية” و”الأراضي الرطبة الاصطناعية” لتنقية المياه وتخزينها. وكذلك دمج أنظمة إعادة تدوير المياه الرمادية (مياه المغاسل والأحواض) مع حلول المدن “الإسفنجية” لتقليل الاعتماد على المياه الجوفية. بالإضافة إلى زيادة المساحات الخضراء عبر الأسطح والجدران الخضراء، والتي لا تمتص المياه فحسب، بل تقلل درجات الحرارة في المدن المكتظة.

بين الطموح والتحديات

على الرغم من الفوائد البيئية والاقتصادية والاجتماعية العديدة التي توفرها المدن “الإسفنجية”، إلا أن تنفيذ هذا النموذج لا يخلو من التحديات. فمن أهم هذه التحديات مسألة الحوكمة والتشريعات، حيث تواجه العديد من المدن صعوبات في تنظيم حقوق الملكية ووضع لوائح واضحة للاستخدام الأمثل للمياه. من ناحية أخرى، يُعد التمويل من أكبر العقبات التي تواجه تنفيذ مشاريع المدن “الإسفنجية”، خاصة في البلدان النامية التي تفتقر إلى الموارد المالية الكافية.

بالإضافة إلى ذلك، لا يزال مفهوم المدينة “الإسفنجية” حديثًا نسبيًا، في حين أن المعايير والتعريفات المتعلقة به غير واضحة في العديد من الحالات. كما أن بعض التقنيات المستخدمة في إنشاء المدن “الإسفنجية” لا تزال قيد التطوير، في حين أن توفرها يختلف من مكان إلى آخر. بالإضافة إلى ما سبق فإن نجاح مشاريع المدن “الإسفنجية” يعتمد بشكل كبير على الظروف الطبيعية والبنية التحتية القائمة، حيث قد تواجه بعض المدن صعوبات في تطبيق هذا النموذج بسبب تضاريسها أو موقعها الجغرافي.

لنجعل مدننا تتنفس من جديد

في ختام رحلتنا الشيقة في عالم المدن “الإسفنجية”، نرى بوضوح أن مستقبل مدننا مرهون بقدرتنا على إعادة نسج علاقتنا مع الطبيعة. لقد آن الأوان لننتقل من منطق السيطرة إلى منطق التعاون، ومن الحلول الهندسية إلى الحلول الذكية والمرنة التي تستوحي إلهامها من الطبيعة الأم.

وإن تبني مفهوم المدن “الإسفنجية” ليس مجرد خيار، بل هو ضرورة ملحة لمواجهة تحديات العصر المتسارع. فلنجعل مدننا تتنفس من جديد، ولنحول خرسانتها الصماء إلى واحات خضراء تنبض بالحياة. لنستثمر في الحلول القائمة على الطبيعة، ولنطلق العنان للإبداع والابتكار من أجل بناء مدن مستدامة قادرة على الصمود في وجه تغيرات المناخ.

تابعونا على لينكيد إن Linkedin لمعرفة كل جديد في مجال الطاقة المتجددة والسيارات الكهربائية…

نتمنى لكم يوماً مشمساً!

المصادر: wri, chapmantaylor, ucem, weforum

image created by AI

The post المدن “الإسفنجية”: حيث تلتقي الهندسة مع الطبيعة appeared first on Solarabic سولارابيك. Written by بسمه عبود