العقوبات على صادرات النفط الروسية تؤثر في أسواق الطاقة العالمية.. أبرز التداعيات (مقال)
على مدار العام الماضي، اتسمت أسواق الطاقة العالمية عامةً، وصادرات النفط الروسية خاصةً، بتحولات عميقة ناجمة أساسًا عن التوترات الجيوسياسية المستمرة المحيطة بتصرفات موسكو في أوكرانيا والعقوبات الناتجة عنها التي فرضتها الدول الغربية.
وتشمل التطورات الأخيرة رفض الصين والهند قبول ناقلات النفط من روسيا الخاضعة للعقوبات الأميركية الجديدة.
وتؤثر هذه الخطوة المهمة في قدرة موسكو على الحفاظ على صادرات النفط الروسية، وتثير أسئلة جيوسياسية أوسع نطاقًا بشأن مستقبل العلاقات الروسية في مجال الطاقة مع الصين والهند.
ويقدم هذا التقرير تحليلًا شاملًا للتداعيات الجيوسياسية لهذا القرار، إلى جانب العواقب الاقتصادية والتحولات الإستراتيجية المحتملة.
صادرات النفط الروسية والعقوبات
منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا عام 2022، واجهت صادرات النفط الروسية، ضمن قطاع الطاقة في موسكو، مجموعة من العقوبات من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول غربية أخرى.
واستهدفت العقوبات جوانب مختلفة من صناعة النفط الروسية، بما في ذلك القيود المفروضة على الصادرات، والقيود المفروضة على المعاملات المالية، وسقف لسعر النفط الخام الروسي.
وتهدف هذه التدابير إلى الحد من تدفقات الإيرادات التي تدرها صادرات النفط الروسية، مع معاقبة الدولة على تورطها في الحرب.
وقادت الولايات المتحدة هذه الحملة بمجموعة جديدة من العقوبات التي فرضت في 10 يناير/كانون الثاني 2024، التي تشمل إدراج أكثر من 180 سفينة تحمل صادرات النفط الروسية على القائمة السوداء، بما في ذلك 69 سفينة تديرها شركة سوفكومفلوت (Sovcomflot)، أكبر مشغل لأسطول ناقلات النفط في روسيا.
وتأثرت شركة سوفكومفلوت، المتخصصة في نقل الغاز المسال والنفط ومنتجات النفط، بشكل مباشر بهذه العقوبات؛ ما أثار مخاوف بشأن المخاطر البيئية والتشغيلية التي تفرضها القيود.
وصرّح السكرتير الصحفي للرئيس الروسي، دميتري بيسكوف، بأن روسيا تحلل الموقف بعناية وستتخذ التدابير اللازمة لتقليل تداعيات هذه العقوبات.
وأكد بيسكوف أنه لن تُستَبعد أي خيارات؛ ما يشير إلى احتمال تصعيد رد روسيا.
بالإضافة إلى ذلك، حذّرت روسيا من التأثير المزعزع للاستقرار لهذه العقوبات في الأسواق العالمية، خصوصًا بقطاعي النفط والغاز.
الرد الصيني على العقوبات
كانت الصين، أحد أكبر مشتري النفط الروسي، في صميم المناقشة الجيوسياسية المحيطة بصادرات الطاقة الروسية.
وفي السنوات الأخيرة، زادت الصين بشكل كبير من وارداتها من النفط الروسي، خصوصًا بعد أن قلصت الدول الأوروبية اعتمادها على الطاقة الروسية.
إلى جانب ذلك، فإن العقوبات الأخيرة التي فرضتها الولايات المتحدة أجبرت الصين على إعادة ضبط نهجها. من ناحيتها، رفضت مجموعة ميناء شاندونغ 3 ناقلات تحمل نفطًا روسيًا كان من المقرر تفريغها في ميناء شاندونغ الصيني بسبب تورطها في العقوبات، وفقًا لتقارير نشرتها وكالة بلومبرغ.
وكانت هذه الناقلات تحمل ما يقرب من مليوني برميل من النفط؛ ما يوضح حجم الاضطراب.
وعلى الرغم من أن المسؤولين الصينيين لم يقدموا تعليقات مفصّلة حول الموقف؛ فقد أعرب مجتمع الأعمال عن فهم واضح للمخاطر التي ينطوي عليها الاستمرار في قبول النفط الروسي الخاضع للعقوبات.
وكانت الشركات الصينية حريصة على عدم انتهاك العقوبات الأميركية؛ الأمر الذي قد يؤدي إلى عقوبات ثانوية أو تدابير عقابية أخرى.
ويؤكد هذا الوضع حقيقة مفادها أنه في حين كانت الصين تاريخيًا حليفًا قويًا لروسيا في سياقات جيوسياسية معينة، فإنها تظل متكاملة بعمق في الاقتصاد العالمي والأنظمة المالية، وهو ما يحد من استعدادها للمخاطرة بتجاهل العقوبات الأميركية.
إضافة إلى ذلك، وحسبما ذكرت شركة الاستثمارات المصرفية آر بي سي كابيتال ماركت (RBC)، بدأت الصين في تنويع مصادرها من النفط، وتسعى إلى تأمين إمدادات إضافية من الشرق الأوسط وأفريقيا والأميركتين لتحل محل النفط الروسي الذي لم تعد قادرة الآن على استيراده بحرية.
وتشير هذه الخطوة إلى أن الصين تعيد تقييم إستراتيجيتها في مجال الطاقة، سعيًا إلى تقليل الاضطرابات التي قد تلحق بأمن الطاقة لديها مع الحفاظ على مصالحها الاقتصادية.
الهند تتردد في قبول ناقلات النفط
الهند، وهي مستهلك رئيس آخر للنفط الروسي، أعربت عن ترددها في قبول ناقلات النفط التي تحمل النفط الروسي التي تندرج تحت نطاق العقوبات الأميركية في الماضي.
رغم ذلك؛ فإن مصافي النفط الهندية، التي زاد اعتمادها على الخام الروسي، سوف تضطر إلى التكيف مع هذه القيود الجديدة.
ويعكس نهج الهند توجهات الصين المتمثلة في إستراتيجية الانتظار والترقب الحذرة.
وعلى الرغم من إشارة الهند إلى أنها ستواصل البحث عن سبل لشراء النفط من روسيا، فإنها تعترف في الوقت نفسه بحقيقة الوضع واحتمال انقطاع الإمدادات في الأشهر المقبلة.
وأعربت الحكومة الهندية عن أملها في أن تجد روسيا طرقًا بديلة لتجاوز هذه العقوبات، ربما من خلال وسطاء من أطراف ثالثة أو إعادة توجيه الشحنات.
في الوقت نفسه، بدأ النظام المصرفي في الهند يطالب بشهادات تؤكد أن النفط المستورد لا يخضع للعقوبات، ما يضيف طبقة إضافية من التعقيد إلى التجارة.
ويعكس موقف الهند، أسوة بموقف الصين، توازنًا دقيقًا بين تأمين صفقات الطاقة المواتية مع روسيا والحفاظ على الامتثال للعقوبات الدولية.
وتُعد مصافي التكرير الهندية، التي استفادت من الخصم على النفط الروسي، معرّضة لأي انقطاع في العرض أو زيادات كبيرة في الأسعار من مصادر بديلة.
ويشير استمرار الهند في شراء النفط الروسي، خصوصًا لإعادة بيعه أو المزيد من التكرير، إلى أن البلاد تتطلع إلى الاستفادة من أي فرص لتأمين النفط بأسعار أقل دون انتهاك العقوبات الأميركية بشكل مباشر.
وقد يستمر هذا النهج الانتهازي ما دامت روسيا قادرة على إيجاد طرق للالتفاف على العقوبات، وقد يخلق توترات داخل الإستراتيجية الجيوسياسية الأوسع للهند، خصوصًا إذا كثفت الولايات المتحدة من تدقيقها.
الرد الإستراتيجي الروسي: الالتفاف على العقوبات
بالنظر إلى ابتعاد كل من الصين والهند عن شحنات النفط الروسية الخاضعة للعقوبات الأميركية، يتعين على روسيا إيجاد طرق للحفاظ على صادراتها النفطية.
وأشارت موسكو إلى أنها منفتحة على الحوار والتعاون مع الدول الراغبة في الالتفاف على العقوبات.
ومن بين السبل المحتملة للالتفاف على العقوبات إعادة رفع العلم على السفن؛ الأمر الذي ينطوي على تغيير ملكية وتسجيل الناقلات لتجنب الارتباط المباشر بروسيا.
في هذا الإطار، يمكن لروسيا استعمال أساليب إعادة الشحن، حيث يُفَرَّغ النفط في البحر ويُنقَل إلى سفن أخرى قبل الوصول إلى وجهته.
ويُنظَر، حاليًا، في هذه الأساليب لضمان استمرار تدفق النفط الروسي إلى الأسواق الدولية على الرغم من العقوبات.
بالإضافة إلى ذلك، تستكشف روسيا فرص تنويع صادراتها من الطاقة إلى دول أخرى، مثل فيتنام، التي أبدت اهتمامها بزيادة تعاونها في مجال الطاقة مع روسيا.
وفي التطورات الدبلوماسية الأخيرة، اتفقت روسيا وفيتنام على استكشاف مشروعات النفط والغاز المشتركة وتعميق علاقاتهما في مجال الطاقة؛ ما يشير إلى نية روسيا توسيع شراكاتها في مجال الطاقة إلى ما هو أبعد من المشترين التقليديين مثل الصين والهند.
إيرادات صادرات النفط الروسية في 2024
في عام 2024، أدّت إيرادات صادرات النفط الروسية، وكذلك الغاز، دورًا ملحوظًا في تحديد التوقعات المالية للبلاد، حيث عكست التقلبات في الأسواق العالمية والتعديلات المحلية.
وأفادت وزارة المالية الروسية بأن إيرادات النفط والغاز لهذا العام بلغت 11.131 تريليون روبل (108 مليارات و268 مليون دولار).
وعلى الرغم من أن هذا الرقم كان أقل قليلًا من 11.309 تريليون روبل المتوقعة، فإن العجز في الإيرادات البالغ 178 مليار روبل كان انتكاسة طفيفة في الصورة المالية الأوسع.
وقد يُسهِم الأداء الضعيف الطفيف في إيرادات النفط والغاز في عجز بالموازنة أكبر من المتوقع لهذا العام، على الرغم من أنه كان من المتوقع أن تتفوق الإيرادات غير النفطية والغازية على التوقعات؛ ما يساعد في تعويض الفجوة.
(الروبل الروسي = 0.0097 دولارًا أميركيًا)
وبدأت بيانات إيرادات عام 2024 بتناقض صارخ مع السنوات السابقة.
ومقارنةً بعام 2023، ارتفعت الإيرادات الضريبية من إنتاج النفط والغاز ومكثفات الغاز، إلى جانب صادرات الغاز، بنسبة 26%، لتصل إلى زيادة ملحوظة عن إجمالي العام السابق البالغ 8.822 تريليون روبل.
وعُزي هذا الارتفاع إلى انخفاض حاد في سعر نفط الأورال في عام 2023، الذي بلغ متوسطه 62.99 دولارًا للبرميل فقط.
وعلى الرغم من انخفاض الأسعار؛ فقد شهد قطاع النفط في روسيا انتعاشًا، ويرجع ذلك على الأرجح إلى التحول العالمي في أسواق الطاقة وتكيف الشركات مع الظروف الصعبة.
في عام 2024، تطور الوضع مع ارتفاع معتدل في سعر نفط الأورال، الذي بلغ متوسطه 67.85 دولارًا للبرميل.
في البداية، وُضِعَت الموازنة الفيدرالية بتوقع 70.3 دولارًا للبرميل، ولكن بحلول منتصف العام، عُدِّلَت التوقعات نزولًا إلى 65 دولارًا.
وهذا يعكس حالة الضبابية المستمرة المحيطة بأسعار النفط، مدفوعة بالتوترات الجيوسياسية العالمية وديناميكيات الطلب المتغيرة.
ورغم هذا التقلب في الأسعار؛ فقد ساعد ارتفاع إيرادات النفط والغاز بدءًا من عام 2023 في تخفيف أعباء الموازنة المالية.
ومن المهم أن نلاحظ أن انخفاض قيمة الروبل أدى دورًا؛ حيث ترتبط الضرائب على النفط في روسيا بأسعار الصرف.
وقد وفر ضعف الروبل على مدار العام حماية إضافية، ما منع حدوث انخفاض أكبر في الإيرادات.
في سياق متصل، وعند مقارنة إيرادات النفط والغاز لعام 2024 بعام 2022، كانت الصورة أقل ملاءمة.
في عام 2022، بلغت الإيرادات 11.586 تريليون روبل، وهو رقم أعلى من عام 2024، حتى مع ارتفاع أسعار النفط من 67.85 دولارًا في عام 2024 إلى 76.02 دولارًا في عام 2022.
بالإضافة إلى ذلك، بدأت العقوبات في إحداث خسائرها؛ ما أدى إلى تقليص إنتاج النفط الروسية وصادراته.
وقد تفاقم هذا التأثير بسبب التضخم بمقدار 7.4% في عام 2023 ومن المتوقع أن يكون نحو 10% في عام 2024؛ ما يعني أنه من حيث القيمة الحقيقية، كان انخفاض الإيرادات أكثر وضوحًا.
تجدر الإشارة إلى أنه لولا انخفاض قيمة الروبل، لكان العجز في إيرادات النفط والغاز أكثر أهمية.
ومع انتهاء العام، استعدت الحكومة الروسية لزيادة الإنفاق التقليدية في ديسمبر/كانون الأول الماضي، التي قد تؤثر بشكل أكبر في العجز النهائي.
ورغم أن النتائج الكاملة لموازنة السنة المالية لم تُعلن بعد؛ فقد كان من الواضح أن إيرادات النفط والغاز ستظل عنصرًا رئيسًا في الإستراتيجية المالية الروسية، التي تتعامل مع التفاعل المعقد بين أسعار النفط والعقوبات والظروف الاقتصادية المحلية.
التداعيات الجيوسياسية
لا يمثل الموقف الحذر الذي تتبناه الصين والهند في قبول ناقلات النفط، التي تحمل النفط الروسي الخاضع للعقوبات الأميركية، تحولًا مهمًا في الاعتبارات الجيوسياسية للطاقة العالمية.
وبالنظر إلى محاولة روسيا تحويل إستراتيجيتها في مجال الطاقة نحو آسيا، خصوصًا الصين والهند، فإنها تواجه الآن واقعًا يضطر شركاؤها الرئيسون في مجال الطاقة إلى تحمل المخاطر المالية والجيوسياسية المرتبطة بتجاهل العقوبات الأميركية.
ويسلط هذا التطور الضوء على الطبيعة المعقدة للتجارة الدولية في مجال الطاقة؛ حيث تتفوق المصالح الاقتصادية على التحالفات السياسية في كثير من الأحيان.
وبالنسبة لروسيا، فإن العواقب المباشرة واضحة: انخفاض صادرات النفط وانخفاض الإيرادات، وهو ما قد يؤدي إلى تفاقم الضغوط المالية التي تواجهها الحكومة الروسية، حاليًا.
وقد يزيد استمرار روسيا في الاعتماد على أساليب انتهاك العقوبات من المخاطر الجيوسياسية، حيث قد تسعى الدول الغربية إلى زيادة فرض العقوبات؛ ما قد يؤدي إلى تصعيد التوترات مع الصين والهند ودول أخرى تسعى إلى التعامل مع روسيا.
وتعكس تصرفات الصين نهجها الواقعي في الحفاظ على علاقات مستقرة مع كل من روسيا والغرب.
ورغم أنها قد تستمر في شراء النفط الروسي في المستقبل؛ فمن المرجح أن تتجنب انتهاك العقوبات الأميركية علنًا، وهو ما قد يعرّض قدرتها على الوصول إلى الأسواق والتكنولوجيا الغربية للخطر.
وعلى نحو مماثل، تسلك الهند مسارًا دقيقًا، فتسعى إلى الحفاظ على صفقات الطاقة المواتية مع روسيا مع الالتزام بالأطر القانونية الدولية.
وسوف تشعر سوق الطاقة العالمية الأوسع نطاقا بتأثير هذه الاضطرابات، خصوصًا إذا لم تتمكن روسيا من تأمين أسواق بديلة لنفطها.
وقد تؤدي الاضطرابات في صادرات النفط الروسية إلى تقلبات في أسعار النفط العالمية، مع تسابق البلدان في آسيا وأوروبا والأميركتين لتأمين إمدادات بديلة.
وفي الوقت نفسه، يشير دفع روسيا لتنويع صادراتها من الطاقة إلى دول مثل فيتنام وتوسيع وجودها داخل مجموعة البريكس إلى أن موسكو تسعى إلى تحويل إستراتيجيتها في مجال الطاقة نحو الأسواق غير الغربية.
في نهاية المطاف، يؤكد رفض الصين والهند قبول ناقلات النفط الروسية الخاضعة للعقوبات الأميركية حدود التحالفات الجيوسياسية لروسيا وضعفها في سوق الطاقة العالمية.
وعلى الرغم من أن روسيا قد تستمر في البحث عن طرق للالتفاف على العقوبات وإيجاد أسواق بديلة، فإن الآثار الأوسع نطاقًا في تجارة الطاقة، وإنفاذ العقوبات، والعلاقات الجيوسياسية تظل معقّدة ومتقلبة.
فيلينا تشاكاروفا، متخصصة في الشؤون السياسية بالدول المنتجة للطاقة.
*هذا المقال يمثّل رأي الكاتبة، ولا يعبّر بالضرورة عن رأي منصة الطاقة
موضوعات متعلقة..
- إيرادات صادرات النفط الروسية تواصل هبوطها.. آسيا طوق نجاة
- صادرات النفط الروسية تهدد الدنمارك بكارثة بيئية.. ناقلات الظل بلا رقيب
- مسؤول: صادرات النفط الروسية تغير مسارها إلى الدول الصديقة
اقرأ أيضًا..
- وادي الظهران.. نموذج سعودي يدعم الابتكار التقني
- الصين تقود نمو السيارات الكهربائية في 2024.. انتعاشة مرتقبة بقارتين
- تكلفة الحياد الكربوني في فيتنام تتجاوز 2.4 تريليون دولار.. هل تقوى على تحملها؟
إقرأ: العقوبات على صادرات النفط الروسية تؤثر في أسواق الطاقة العالمية.. أبرز التداعيات (مقال) على منصة الطاقة