البصمة الكربونية للأفراد والشركات.. التحديات وسبل التغلب عليها (مقال)
في ظل تحديات التغير المناخي المتزايدة، أصبح قياس البصمة الكربونية أمرًا حيويًا للأفراد والشركات على حدّ سواء، و تحوّل إلى ضرورة ملحّة تمسّ مستقبل الحياة على هذا الكوكب.
وتُقاس البصمة بمقدار غازات الدفيئة التي ننتجها أفرادًا وشركات، سواء عبر قيادة السيارات، أو تشغيل المصانع، أو حتى شراء كوب قهوة.
لكن كيف يمكننا قياس هذه الانبعاثات بدقة؟ وهل نمتلك الأدوات الكافية لمعرفة تأثيرنا الحقيقي في المناخ؟
تُعرف البصمة الكربونية بأنها كمية انبعاثات غازات الدفيئة الناتجة عن الأنشطة البشرية، سواء كانت مباشرة (مثل حرق الوقود) أو غير مباشرة (مثل استهلاك الكهرباء).
ومع تزايد الوعي البيئي، تبرز تحديات كبيرة في قياس هذه البصمة بدقّة، خاصة على مستوى الأفراد والشركات الصغيرة والمتوسطة.
تقليل الانبعاثات
الواقع يشير إلى فجوة كبيرة بين الرغبة في تقليل الانبعاثات والقدرة على قياسها فعليًا.
فبينما تسعى الحكومات والمنظمات العالمية لوضع أهداف طموحة لخفض الكربون، يواجه الأفراد والشركات على الأرض تحديات معقّدة تحول دون تحديد بصمتهم الكربونية بوضوح.
من نقص البيانات الدقيقة إلى تعقيدات سلاسل التوريد، ومن غياب المعايير الموحّدة إلى ضعف الحوافز، تبرز عقبات تجعل من تقييم الأثر البيئي مهمة معقّدة.
في هذا المقال، سنستعرض هذه التحديات، ونستكشف كيف يمكن للتكنولوجيا الحديثة والسياسات الذكية أن تقدّم حلولًا مبتكرة تضعنا على المسار الصحيح.
سنرى كيف يمكن لتطبيقات الذكاء الاصطناعي أن تحوّل الهواتف الذكية إلى أدوات لرصد الانبعاثات، وكيف تقود تقنيات مثل “البلوك تشين” ثورة في الشفافية البيئية.
القياس الدقيق للبصمة الكربونية هو الخطوة الأولى نحو المساءلة الفعلية، ومن ثمَّ العمل الجادّ لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. فهل نستطيع تحويل هذه التحديات إلى فرص؟
التحديات الرئيسة في قياس البصمة الكربونية للأفراد
1. نقص البيانات الدقيقة والموثوقة
يواجه الأفراد صعوبة في جمع البيانات المتعلقة باستهلاكهم للطاقة والموارد، خاصة عندما يتعلق الأمر بالانبعاثات غير المباشرة مثل تلك الناتجة عن شراء السلع والخدمات، على سبيل المثال، قد لا يعرف الفرد كمية الكربون المنبعثة خلال تصنيع هاتفه الذكي أو ملابسه بسبب تعقيد سلاسل التوريد العالمية.
2. صعوبة حساب الانبعاثات غير المباشرة
تتجاوز البصمة الكربونية للأفراد مجرد استهلاك الكهرباء أو الوقود، إذ تشمل أيضًا الانبعاثات الناتجة عن النقل العام، والسفر الجوي، وحتى النفايات المنزلية. معظم الأدوات الحالية لا توفر طريقة سهلة لاحتساب هذه الانبعاثات بدقّة.
3. عدم وجود حوافز كافية للأفراد
على الرغم من توفُّر بعض التطبيقات التي تساعد في قياس البصمة الكربونية، فإن نقص الحوافز المالية أو الاجتماعية يجعل الأفراد أقل تحمسًا لتبنّي هذه الممارسات. فالكثيرون يرون أن جهودهم الفردية لن تُحدِث فرقًا كبيرًا في ظل استمرار الانبعاثات الصناعية الضخمة.
4. التباين في المنهجيات الحسابية
تختلف المعايير المستخدمة في حساب البصمة الكربونية بين المنصات والتطبيقات، مما يؤدي إلى نتائج غير متّسقة، وهذا التباين يخلق ارتباكًا لدى المستعمِلين، ويقلل من مصداقية النتائج.
حلول لمواجهة تحديات قياس بصمة الأفراد الكربونية
1. تطبيقات ذكية متكاملة مع أنماط الحياة
يمكن تطوير تطبيقات تتبع تلقائيًا الأنشطة اليومية للأفراد، مثل استهلاك الكهرباء عبر عدّادات ذكية، أو انبعاثات التنقل عبر ربطها بتطبيقات الملاحة مثل “خرائط جوجل سوف تقدّم تقديرات دقيقة بناءً على أنماط الإنفاق والتنقل.
2. استعمال تقنيات البلوك تشين للشفافية
يمكن تسجيل بيانات الانبعاثات الفردية عبر تقنيات البلوك تشين لضمان الشفافية وعدم التلاعب بالبيانات، كما يمكن ربط هذه السجلات بأنظمة المكافآت، مثل الحصول على نقاط قابلة للاستبدال بحسومات أو تبرعات بيئية.
3. الشراكة مع المؤسسات المالية
يمكن للبنوك وشركات البطاقات الائتمانية تقديم تقارير دورية عن البصمة الكربونية لعملائها بناءً على أنماط إنفاقهم. حيث يمكن أن تقدّم بطاقات ائتمانية حساب للانبعاثات للعملاء، وتوجّه المستعملين نحو خيارات أكثر استدامة.
4. التوعية عبر الألعاب الإلكترونية والمسابقات والتحديات المجتمعية
يمكن تحفيز الأفراد عبر منصات الألعاب التي تمنح مكافآت رمزية أو حقيقية لتقليل الانبعاثات، على سبيل المثال، يمكن إنشاء تحديات لتقليل البصمة الكربونية، مع نشر النتائج على وسائل التواصل الاجتماعي لتعزيز التنافس الإيجابي.
التحديات الرئيسة في قياس البصمة الكربونية للشركات
1. تعقيد سلاسل التوريد
تواجه الشركات -خاصةً الكبيرة منها- صعوبة في تتبُّع الانبعاثات عبر سلاسل التوريد العالمية، حيث تشمل العمليات مورّدين متعددين في دول مختلفة بمعايير بيئية متنوعة.
2. ارتفاع تكلفة أدوات القياس المتقدمة
تتطلب بعض منهجيات القياس، الذي يحسب الانبعاثات غير المباشرة، استثمارات كبيرة في البرمجيات والاستشارات، مما يجعلها غير متاحة للشركات الصغيرة والمتوسطة.
3. عدم وجود معايير موحدة عالميًا
تختلف معايير الإبلاغ عن الانبعاثات بين الدول والقطاعات، مما يصعب على الشركات متعددة الجنسيات توحيد تقاريرها الكربونية.
4. التحديات القانونية والتنظيمية
في بعض الدول، لا توجد قوانين ملزمة للإفصاح عن الانبعاثات، مما يقلل من حافز الشركات للاستثمار في قياسها، حتى في الدول التي تفرض ذلك، تختلف شدة الرقابة والعقوبات.
حلول لمواجهة تحديات قياس البصمة الكربونية للشركات
1. الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة
يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل كميات هائلة من البيانات لرصد الانبعاثات عبر سلاسل التوريد، وتحديد البصمات الكربونية للمنتجات بدقّة.
2. تبنّي تقنيات إنترنت الأشياء (IoT)
يمكن تركيب أجهزة استشعار في المنشآت الصناعية لمراقبة استهلاك الطاقة والانبعاثات في الوقت الفعلي، مما يسهّل عملية جمع البيانات واتخاذ القرارات السريعة.
3. الشراكات مع الموردين لتعزيز الشفافية
يمكن للشركات الكبرى تشجيع مورّديها على تبنّي معايير قياس موحدة عبر تقديم حوافز مالية أو تفضيل المورّدين الأقل انبعاثًا في عقود التوريد.
4. تيسير الأدوات للشركات الصغيرة
يمكن للحكومات والمنظمات غير الربحية تطوير أدوات مفتوحة المصدر ومنخفضة التكلفة لمساعدة الشركات الصغيرة على قياس انبعاثاتها، دون الحاجة إلى استثمارات ضخمة.
دور المنظمات الدولية والحكومات في مواجهة التحديات
تؤدي المنظمات الدولية والحكومات دورًا محوريًا في تذليل التحديات التي تواجه الأفراد والشركات عند قياس بصمتهم الكربونية.
فمن جانب المنظمات الدولية، يتمثل دورها في وضع وتطوير المعايير والأطر المنهجية الموحدة لقياس الانبعاثات، مثل قوانين الغازات المسببة للاحتباس الحراري، مما يوفر أساسًا مشتركًا لجميع الجهات، ويسهّل المقارنة والشفافية.
كما تعمل هذه المنظمات على نشر الوعي وتقديم الدعم الفني وبناء القدرات في الدول المختلفة، وتبادل الخبرات وأفضل الممارسات لمساعدة الحكومات والشركات على تبنّي آليات قياس فعالة.
أمّا الحكومات، فتسهم أساسًا من خلال سَنّ التشريعات والقوانين التي تُلزِم الشركات بالإفصاح عن انبعاثاتها، أو تحدد سقوفًا لها، مما يحفّز الشركات على القياس والإدارة.
وتقدّم الحكومات أيضًا حوافز مالية وسياسات داعمة تشجع الاستثمار في التقنيات النظيفة وتحسين كفاءة الطاقة، مما يقلل من الانبعاثات، ويسهّل عملية القياس والتحقق منها.
بالإضافة إلى ذلك، تدعم الحكومات البحث والتطوير في مجال تقنيات القياس والحدّ من الانبعاثات، وتعمل على دمج مفاهيم البصمة الكربونية في الإستراتيجيات الوطنية للتنمية المستدامة، مما يخلق بيئة مواتية لتجاوز التحديات التقنية والمالية والمعرفية المرتبطة بقياس البصمة الكربونية على نطاق واسع.

دور مؤسسات المجتمع المدني في مواجهة التحديات
تؤدي مؤسسات المجتمع المدني دورًا حيويًا في مساعدة الأفراد والشركات على مواجهة التحديات المرتبطة بقياس البصمة الكربونية.
فهي تعمل بمثابة جسر بين الحكومات والمنظمات الدولية من جهة، والمواطنين والقطاع الخاص من جهة أخرى، لتعزيز الوعي بأهمية قياس البصمة الكربونية وتأثير تغير المناخ عمومًا.
تقدّم هذه المؤسسات الدعم من خلال توفير المعلومات والأدوات المبسّطة التي تمكّن الأفراد والشركات الصغيرة والمتوسطة من فهم كيفية حساب بصمتهم الكربونية وتقليلها.
كما تحثّ مؤسسات المجتمع المدني صانعي القرار لسنّ تشريعات وسياسات تدعم العمل المناخي، وتُلزِم الشركات الكبرى بالإفصاح عن انبعاثاتها، مما يخلق بيئة أكثر شفافية ومسؤولية.
بالإضافة إلى ذلك، تسهم في بناء القدرات وتقديم التدريب وورش العمل التي تساعد على تجاوز النقص في الخبرة والمعرفة الفنية اللازمة للقياس الدقيق.
من خلال حملات التوعية والمبادرات المجتمعية، تشجع هذه المؤسسات على تبنّي ممارسات مستدامة وتغيير سلوكيات الاستهلاك والإنتاج لخفض الانبعاثات، وتعمل على دعم التمويل للمشروعات البيئية الصغيرة.
ورغم التحديات التي قد تواجهها مثل محدودية الموارد، فإن دورها يبقى أساسيًا في تحفيز العمل المناخي على مستوى الأفراد والمؤسسات، وسدّ الفجوة بين الأهداف الوطنية والدولية، والقدرة على تحقيقها.
قياس البصمة الكربونية للأفراد والشركات ليس مهمة سهلة، لكنه ضروري لمواجهة التغير المناخي، وبينما تواجه هذه العملية تحديات كبيرة، مثل نقص البيانات والمعايير الموحدة، فإن الحلول المبتكرة القائمة على التكنولوجيا، مثل الذكاء الاصطناعي والبلوك تشين، تقدّم فرصًا واعدة لتعزيز الدقة والشفافية.
على الحكومات والقطاع الخاص والمجتمع المدني العمل معًا لتبنّي هذه الحلول، وخلق حوافز تشجع الجميع على تحمُّل مسؤوليتهم البيئية، وعبر التعاون الدولي -فقط- يمكن تحقيق مستقبل منخفض الكربون.
* الدكتورة هبة محمد إمام – خبيرة دولية واستشارية بيئية مصرية
موضوعات متعلقة..
- خفض البصمة الكربونية في الزراعة.. تقنية ليبية جديدة
- البصمة الكربونية لأصحاب السيارات الكهربائية أعلى من غيرهم.. الأغنياء محل اتهام (دراسة)
- البصمة الكربونية لأكبر شركات الأزياء في العالم.. تعادل انبعاثات المغرب
اقرأ أيضًا..
- أكبر مصفاة نفط في أفريقيا تشتري 9 ملايين برميل من أميركا خلال شهر
- انطلاق ثاني شحنة غاز مسال من مشروع تورتو أحميم.. إلى أين تتجه؟
- إنتاج الطاقة الشمسية يتخطى النووية لأول مرة تاريخيًا
إقرأ: البصمة الكربونية للأفراد والشركات.. التحديات وسبل التغلب عليها (مقال) على منصة الطاقة