صادرات الغاز المسال الأميركية.. دراسة تكشف الأبعاد الاقتصادية والجيوسياسية
باتت صادرات الغاز المسال الأميركية عنصرًا فاعلًا في معادلة الطاقة العالمية، وتحولت إلى إستراتيجية تُعيد رسم موازين القوى الاقتصادية والجيوسياسية.
فمنذ أن دخلت الولايات المتحدة نادي كبار المصدّرين، ووجدت الأسواق العالمية نفسها أمام لاعب جديد يفرض شروطه، إذ باتت أكبر مصدر للغاز المسال عالميًا بأكثر من 87 مليون طن عام 2024، وفق بيانات وحدة أبحاث الطاقة.
ورغم أن دراسات وزارة الطاقة الأميركية السابقة تشير إلى مكاسب اقتصادية واضحة من تعزيز صادرات الغاز المسال، فإن الصورة ليست بهذه البساطة.
فقد تناولت دراسة حديثة، اطّلعت عليها وحدة أبحاث الطاقة (مقرّها واشنطن)، واقع صادرات الغاز المسال الأميركية ومستقبلها، مسلطة الضوء على العوامل التي تؤثر في تدفقاتها، ودور السياسات في دعم النمو أو تقييده، فضلًا عن الضغوط البيئية.
كما أظهرت دور الأبعاد الجيوسياسية وأمن الطاقة، خاصة بعد أزمة الطاقة التي ضربت أوروبا عقب الغزو الروسي لأوكرانيا.
وخلصت إلى أن آفاق صادرات الغاز المسال الأميركية قوية، شريطة أن تعمل الأسواق بسلاسة، وعبر دعم الاستثمارات في بنية تحتية تعزّز الشفافية والتنافسية.
صادرات الغاز المسال الأميركية تعزّز الاقتصاد
مع تصاعد دور صادرات الغاز المسال الأميركية، أجرت وزارة الطاقة الأميركية سلسلة من الدراسات لتقييم الصالح العام.
وأجمعت جميع الدراسات على نتيجة أساسية: تصدير الغاز المسال يولّد مكاسب صافية للاقتصاد، وتزداد هذه الفوائد كلما توفرت الموارد، غير أن أي قيود على تطوير المشروعات قد تقلّل من هذه الفوائد.
وفي المقابل، خلصت دراسة نشرها معهد بيكر لدراسة السياسات العامة، إلى أن الدراسات الممولة من وزارة الطاقة قلّلت من مرونة العرض -مدى قدرة الإنتاج على الاستجابة لتغيرات الأسعار- حيث فاق الإنتاج الفعلي تلك التوقعات، وبدأت الدراسة الأحدث لوزارة الطاقة في 2024 تتبنّى أكثر الافتراضات تفاؤلًا فيما يتعلق بمرونة العرض.
وأظهرت دراسة معهد بيكر أن دراسات وزارة الطاقة الأميركية ركزت على التأثيرات طويلة الأجل لصادرات الغاز المسال الأميركية، ولم تأخذ في الحسبان التقلبات قصيرة الأمد التي تؤثر في الأسعار والطلب.
وأوضحت أنه في الأمد القصير، تؤدي قيود السعة إلى تقلبات حادة في الأسعار، في حين في الأمد الطويل، تتحول هذه القيود إلى فرص استثمارية تساعد على توسيع القدرات الإنتاجية وتحد من الضغوط على الأسعار، وهذا الاختلاف بين الأمدَيْن القصير والطويل يشكّل عنصرًا أساسيًا في وضع السياسات.
ويرصد الرسم البياني التالي -من إعداد وحدة أبحاث الطاقة- أكبر الدول المستوردة للغاز المسال الأميركي في 2024:
نمو إنتاج الغاز المصاحب فرصة كبيرة
أشارت دراسة معهد بيكر إلى عامل آخر لا يمكن إغفاله، وهو الدور الحاسم للغاز المصاحب في استقرار السوق الأميركية، إذ يوسع منحنى العرض ويمنع ارتفاع الأسعار عند زيادة الطلب أو الصادرات، لذا يجب مراعاته في سياق وضع السياسات.
فمع توسع إنتاج النفط الصخري، يرتفع معه إنتاج الغاز المصاحب، حتى وسط استقرار إنتاج النفط المحلي، نتيجة ارتفاع نسبة الغاز إلى النفط، لكن يكمن التحدي في غياب البنية التحتية الكافية لنقله إلى الأسواق، ما يستدعي حرقه أو استعماله ضمن أنشطة إنتاجية أخرى.
غير أن هذه العقبة يمكن تجاوزها من خلال الاستثمار في البنية التحتية اللازمة لنقل الغاز وتصديره، وفق ما رصدته وحدة أبحاث الطاقة.
وأوضحت أن إنتاج الغاز المصاحب في مناطق مثل ساحل الخليج الأميركي، لا سيما حوض برميان، يكفي لتلبية احتياجات محطات توليد الكهرباء والصناعات، فضلاً عن دعم طفرة صادرات الغاز المسال الأميركية.
تعقيدات تراخيص صادرات الغاز المسال الأميركية
من جهة أخرى، تحفّز الفروقات الكبيرة بين الأسعار المحلية والعالمية الاهتمام بتطوير مشروعات الغاز المسال، فقد ارتفع عدد طلبات الحصول على التراخيص تاريخيًا مع اتساع هذه الفجوة.
ورغم أن الحصول على ترخيص تصدير للدول غير الموقعة على اتفاقيات التجارة الحرة يُعد عاملًا حاسمًا في ضمان جذب الاستثمارات، فإن العملية طويلة ومعقدة، ما يخلق تحديات أمام تطوير البنية التحتية، خاصة مع تقلبات السوق.
وأظهرت الدراسة أن امتلاك رخصة لتصدير الغاز المسال لا يضمن بدء انطلاق الصادرات نحو الأسواق، إذ تعتمد القرارات الاستثمارية على تحقيق عوائد مجزية على طول سلاسل التوريد.
كما أكدت الدراسة ضرورة تكامل سوق الغاز في أميركا الشمالية للحد من تقلبات الأسعار وضمان تدفق الإمدادات بكفاءة عبر شبكات الأنابيب.
وتؤدي صادرات أميركا من الغاز إلى المكسيك ووارداتها من كندا دورًا رئيسًا في تحقيق التوازن داخل السوق الأميركية، ومع ذلك، فإن أي اضطرابات قد تؤثر في استقرار السوق، ما يهدّد الجدوى التجارية لصادرات الغاز المسال الأميركية ويضعف المكاسب الجيوسياسية.
ويستعرض الرسم البياني التالي -من إعداد وحدة أبحاث الطاقة- أكبر 10 محطات مرتقبة لتصدير الغاز المسال في العالم، منها 3 في أميركا:
الآثار البيئية لصادرات الغاز المسال الأميركية
في الوقت نفسه، يتزايد التركيز على دراسة التأثيرات البيئية لصادرات الغاز المسال الأميركية، سواء داخل الولايات المتحدة أو خارجها، لكن هذه التقييمات معقدة، وتعتمد على الافتراضات المتعلقة بمصادر الإمداد والأسواق المستهدفة.
ورغم إجراء تحليلات بيئية محلية لاستكشاف مسارات خفض الانبعاثات، فإن اختلاف مصادر الإمداد ومسارات النقل من فوهة البئر إلى محطات الإسالة يجعل من الصعب إجراء تحليل شامل على المستوى الكلي، ما يستدعي تقييم كل محطة تصدير على حدة.
وعلى المستوى الدولي، تصبح التقييمات البيئية أكثر تعقيدًا بسبب مرونة الشحنات الأميركية المحملة على أساس التسليم على ظهر السفينة، ومن ثم لا يمكن التنبؤ مسبقًا بوجهتها النهائية، ويمكن إعادة توجيه الشحنات إلى الأسواق التي تقدّم أعلى سعر وفقًا لعوامل متعددة:
- تقلبات الطلب الموسمية.
- القيود المفروضة على التسليم والتخزين إقليميًا.
- الأوضاع الجيوسياسية.
- الظروف الجوية.
وأشارت الدراسة إلى أن تقدير التأثيرات البيئية لصادرات الغاز المسال الأميركية يختلف عن تقييم الفوائد التجارية، إذ يعتمد الأخير فقط على الطلب العالمي لتحفيز الصادرات، لكن عند تحليل التأثير البيئي، تتضاعف حالة عدم اليقين، إذ يتطلّب الأمر معرفة دقيقة بالأسواق المستهدفة، ومزيج الطاقة فيها حاليًا ومستقبلًا.

أهمية صادرات الأميركية في تعزيز أمن الطاقة
بحسب الدراسة، إذا كان التوجه المستقبلي هو توسيع نطاق تحديد المصلحة العامة فيما يخص صادرات الغاز المسال الأميركية، فينبغي أخذ أبعاد أمن الطاقة في الحسبان وإدراجها ضمن عملية التقييم.
فقد أظهرت الولايات المتحدة قدرتها الفائقة على الاستجابة السريعة لأزمة الطاقة في أوروبا، حيث أدت صادراتها دورًا محوريًا في تخفيف تداعيات انقطاع الإمدادات الروسية، وجنّب ذلك أوروبا أزمة اقتصادية أكثر حدة.
وهذه المرونة لم تكن لتتحقق قبل عام 2016، حين لم تكن واشنطن قد دخلت بقوة إلى سوق تصدير الغاز المسال، الأمر الذي كان سيؤدي إلى نتائج مختلفة تمامًا، بحسب ما رصدته وحدة أبحاث الطاقة.
بالإضافة إلى ذلك، قدّمت الولايات المتحدة نموذجًا واضحًا على دور الغاز في إزاحة الفحم من قطاع توليد الكهرباء، ما أدى إلى انخفاض كبير في انبعاثات الكربون.
إلى جانب ذلك، أثبت الغاز المسال قدرته على دعم موثوقية الشبكات، بفضل مرونته التشغيلية التي تتيح له سد الفجوات الناجمة عن تقلبات إنتاج الرياح والطاقة الشمسية.
في المقابل، ما تزال محطات توليد الكهرباء بالفحم تتوسع في آسيا، خاصة الصين والهند، ما يهدّد بتفاقم أزمة الانبعاثات لعقود مقبلة.
في هذا السياق، تبرز الحاجة إلى توفير إمدادات مرنة من الغاز المسال، لتمكين هذه الدول من الانتقال بعيدًا عن الفحم.
وأكدت الدراسة أن أي تقييد لصادرات الغاز المسال الأميركية لن يؤدي سوى إلى تعزيز اعتماد تلك الدول على الفحم.
الخلاصة..
عزّزت صادرات الغاز المسال الأميركية مكانة واشنطن كونها لاعبًا محوريًا في الأسواق، لكنها تواجه ضغوطًا بيئية وتحديات قد تعرقل زخمها، في حين يبقى أمن الطاقة العالمي مرهونًا بمرونتها في مواجهة التقلبات الجيوسياسية.
موضوعات متعلقة..
- صادرات الغاز المسال الأميركية.. لماذا يلتزم بها ترمب متجاهلًا الاعتبارات البيئية؟ (مقال)
- توقعات صادرات الغاز المسال الأميركية.. طفرة جديدة في 2025 و2026
- أكبر الدول المستوردة للغاز المسال الأميركي.. وكوريا الجنوبية في الصدارة
اقرأ أيضًا..
- واردات المغرب من الغاز في 2024 وأبرز دولة مصدرة
- شبكات توزيع الكهرباء العالمية في مأزق.. أزمات الأسعار والإمدادات تهدد التوسع
- شل تتوقع نمو الطلب على الغاز المسال عالميًا 60%
المصادر:
إقرأ: صادرات الغاز المسال الأميركية.. دراسة تكشف الأبعاد الاقتصادية والجيوسياسية على منصة الطاقة